غزة المكلومة تداوي جراحها.. رائحة الموت تنبعث من بين الدمار والركام.. وأحلام الأطفال دفنتها الصواريخ
نشر في : 09 اغسطس, 2022 09:15 صباحاً

غزة– اشرف الهور -تعود الأمور في قطاع غزة إلى ما كانت عليه قبل التصعيد العسكري الإسرائيلي رويدا رويدا، بعد توقف أصوات الصواريخ والطائرات الحربية التي كانت تغير على مدار الساعة، على العديد من المناطق ومنها منشآت سكنية، فيما خيمت أجواء الحزن على وجوه السكان، وفتحت سرادق العزاء، لاستقبال المعزين بالشهداء الذين سقطوا جراء الغارات، وبينهم أطفال ونساء ومدنيين.

قصص مأساوية

ولا تزال رائحة الموت والخراب تنبعث من عدة أحياء في قطاع غزة، ففي مدينة رفح أقصى جنوب القطاع، لا تزال العوائل المكلومة التي فقدت ثمانية من أبنائها، ومن بيهم خالد منصور القيادي البارز في سرايا القدس، تلملم جراحها.

وهناك في حي الشعوت المكتظ بالسكان، وذي المباني المتلاصقة، تلملم الأسر ما تبقى لها من مقتنيات من تحت الركام، حيث أدت الغارة الإسرائيلية المفاجئة، والتي استخدمت فيها عدة صواريخ، إلى تدمير العديد من المنازل، وحولتها في لحظات إلى ركام.

وما بين المشافي، حيث يرقد أفراد من تلك العوائل، وما بين سرادق العزاء، يتواجد الأهالي الذين سقط أبنائهم بين شهيد وجريح، فيما يقوم بعضهم ممن نزحوا إلى منازل أقارب لهم، بعد تدمير مساكنهم، بجمع بعض المقتنيات والملابس من تحت الركام، بعد أن فروا من الحي بما عليهم من ملابس.

ويخيم على تلك المنطقة المكلومة اللون الأسود، الذي خلفه البارود الذي انفجر من الصواريخ الإسرائيلية، فيما تعلو وجوه أصحاب المنازل، ومن يأتي لمواساتهم علامات الحزن.

ويروي من نجوا من المجزرة وأقاربهم قصصا وذكريات عن الضحايا. ويقول الدكتور نبيل الطهراوي، الذي قضت في الغارة ابنة شقيقته الشهيدة آلاء الطهراوي، أن هذه الفتاة التي تبلغ من العمر (25 عاما)، رزقت قبل أربع سنوات بطفل، ويروي لـ “القدس العربي” آخر لحظات العائلة المكونة من الأب والأم وذلك الطفل المسكين، حين قرر الأب أخذ طفله إلى الدكان القريب لشراء بعض الأشياء للمنزل ولطفله، وما هي لحظات من وصول الأب وابنه، حتى نفذت الغارة الجوية، التي أودت بحياة الأم على الفور، هي ومجموعة من المواطنين.

ويقول الطهراوي إن طفلها الصغير كان متعلقاً بوالدته كثيرا، وأنه يبكي على مدار الساعة بحثا عن أمه، باعتقاد أنها قد تغيب لبعض الوقت وتعود إليه، دون أن يدرك أن غيابها سيكون طويلا، وأن آلة الحرب الإسرائيلية حرمته من حنانها إلى الأبد.

وعلى أنقاض منزله في تلك المنطقة يقف أشرف القيسي (42 عاما)، الرجل الفقير الذي يعمل في مهنة بيع الكعك، والذي ضحى بهدم المنزل الذي يأوي عائلته، في ذلك الحي، ليكون ممرا لعربات الإنقاذ والإسعاف، للدخول إلى المنازل المدمرة، كون الشوارع التي تمر إليها ضيقة، ولا تتسع لوصول تلك الشاحنات.

ويشبه المشهد في تلك المنطقة، تلك المناطق التي يصيبها زلزال قوي، فقد انهارت طبقات البناء في المبنى المستهدف، الذي سوي بالأرض، كما انهارت جدران المنازل المجاورة له.

ولم تكن الصورة مغايرة عما يعيشه سكان مخيم جباليا شمال قطاع غزة، الذي فقد تسعة من أبنائه، قبل مجزرة رفح بدقائق، بينهم خمسة أطفال صغار، إلى جانب عدد من الجرحى، وفي المخيم فتحت العوائل المكلومة سرادق العزاء، التي وضعت فيها صور كبيرة لأنجالها الأطفال، والتي أمّتها حشود كبيرة من المواطنين، حيث لم تتمكن تلك العوائل في أيام التصعيد من فتح بيوت العزاء، خشية من القصف الإسرائيلي، الذي كان يضرب في كل مكان.

وكان من بين من سقطوا في تلك الغارات إلى جانب الأطفال، الشاب اليافع خليل أبو حمادة (19 عاما) وحيد والديه، والذي أبصر النور بعد 13 عاما على زواجهما، من خلال عملية تلقيح صناعي، ويقول أحد أقاربه لـ “القدس العربي”، أن والديه كانا يحلمان بزفاف هذا الشاب قريبا، ليملأ عليها البيت أطفالا، قبل أن تسرقه آلة الحرب الإسرائيلية، وترقده إلى الأبد تحت الثرى.

وظهرت والدته نجوى أبو حمادة، التي تعمل حكيمة في قسم الولادة بمشفى الشفاء بمدينة غزة، في صورة نشرتها وزارة الصحة وهي تودع نجلها، وقلبها يعتصر ألما، وحزنا على نجلها، ويقول أقارب الشهيد خليل، إن الصدمة لا تزال تسيطر على الوالدة، التي تبكي على نجلها أحيانا، وتنادي عليه أحيانا أخرى، على أمل الرجوع إليها.

وقد شارك الكثير من السكان صورة جمعته بوالدته المكلومة قبل استشهاده، على حساباتهم على مواقع التواصل، وألحقوها بعبارات مواساة، تساءل بعضهم عن مدى الحزن أصاب أمه.

من بين الأسر المكلومة، عائلة النيرب، التي فقدت الطفلين مؤمن وأحمد، خلال ذهابهما إلى دكان قريب من المنزل الواقع في مخيم جباليا، لشراء بعض الحلوى، ولم تكن والدتهما تعلم أن خروجهما سيكون الأخير من المنزل، وأنهما سيعودان إليه لإلقاء نظرة الوداع، ولا تزال الأم الحزينة تبكي بحرقة طفليها مؤمن البالغ (13 عاما)، وشقيقه أحمد (خمس سنوات)، وتتذكر قصصهم البريئة في المنزل، بما فيها استعداد الكبير للذهاب للمدرسة قريبا، والصغير للالتحاق بإحدى رياض الأطفال، ولم يبق لهذه الأم سوى طفلة صغيرة، تبادلها نفس الشعور بفقدان الأشقاء.

عائلة العمور التي تقطن في المنطقة الشرقية لمحافظة خانيونس جنوب القطاع، كان لها قصة أخرى مؤلمة مع الحرب، فهذه العائلة دخلت بعد التهدئة للمرة الأولى غرفة ابنتها دنيانا التي قضت جراء استهداف المنزل بقذيفة مدفعية أطلقتها قوات الاحتلال في اليوم الأول من العدوان على غزة، وأصابت غرفة تلك الفتاة، لتلملم الأسرة ما تبقى من مقتنياتها.

في تلك الغرفة التي بقيت على وضعها منذ الاستهداف، حيث اضطرت العائلة للمغادرة لمكان آخر، تناثرت رسومات كانت تلك الفتاة، رسمتها بريشتها ووضعتها في أركان الغرفة، كونها كانت تتمتع بموهبة الرسم، وكانت تأمل أن تنهي دراستها الجامعية، قبل أن تقضي القذيفة الإسرائيلية على أحلامها، ونقلت إذاعة محلية عن رب الأسرة قوله إن القدر حال دون مجزرة تقضي على كل عائلته، والتي كانت لتوها مجتمعة في أحد أركان المنزل، فيما ذهبت ابنته إلى غرفتها، وهي الغرفة التي أصابتها القذيفة المدفعية الإسرائيلية بشكل مباشر.

وكانت مواقع التواصل امتلأت في اليوم الأول للهجوم الإسرائيلي على صورة الطفلة الجميلة آلاء قدوم ابنة الخمس سنوات، وبتعليقات كان أبرزها “بأي ذنب قتلت”.

كما تعاني أسرة النباهين مرارة الفقدان، بعد أن خطفت الصواريخ أربعة من أبنائها، وهم الوالد ياسر وأطفاله الثلاثة محمد وأحمد وداليا، بقصف استهدف منزلهم شرق مخيم البريج وسط قطاع غزة، في الليلة الأخيرة للعدوان.

وما كان محزنا في المشهد تمزق جثث الشهداء الأطفال في تلك الغارات الإسرائيلية، وبعضهم لم تظهر ملامحة بسبب قوة القصف ونوعية الصواريخ المستخدمة، والتي حولت جثثهم إلى أشلاء ممزقة.

تنديد واستنكار

وأشارت وزارة التعليم إلى أن مشاهد قتل الأطفال وترويعهم واستهدافهم تؤكد عنجهية المحتل وسلوكه الإجرامي وإمعانه في سياسة القتل بدم بارد، وقالت إنها ستتابع هذه الجرائم مع الجهات ذات العلاقة على المستويات كافة، ولن تدخر جهدا في فضح ممارسات الاحتلال في المحافل الدولية والأممية، بما في ذلك الملاحقة وفق المقتضى القانوني.

وحسب إحصائية مبدئية فإن العدوان الإسرائيلي على مدار ثلاثة أيام، أدى إلى تدمير 650 وحدة سكنية بشكل كلي وبليغ وجزئي، كما استهدف القصف عدة منشآت أخرى، وأدى إلى تضرر المنظومة الصحية.

وليست وحدها المباني السكنية هي من كانت هدفا للغارات الإسرائيلية، فقد طالت الغارات أيضا أراضي زراعية في مناطق عدة بالقطاع، فقضت على المزروعات التي كان أصحابها يستعدون لجنيها، فيما اقتلعت الغارات أيضا أشجارا من جذورها.

وطالبت شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية بتحرك المجتمع الدولي الجاد والفعلي لتوفير الحماية للمدنيين، وتمكين المرضى من الخروج للعلاج خارج قطاع غزة.

أما اللجنة الدولية للصليب الأحمر في مدينة غزة فقد أشارت إلى أن الناس قضوا أياماً وليالي مؤرقة وسط الانفجارات الخوف والقلق، مستنكرة ما وقع من خسائر في أرواح المدنيين خلال التصعيد الأخير، وأعادت التذكير بأن القانون الدولي الإنساني، يحظر الهجمات العشوائية ضد المدنيين والأعيان المدنية.

وقد أعربت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” عن قلقها العميق إزاء تلك الأحداث التي وقعت في غزة خلال الأيام الماضية، وذكرت أن من بين الضحايا كان هناك أطفال يدرسون في مدارسها، وأعرب الناطق باسم “الأونروا” عن خالص التعازي للعائلات التي تضررت جراء التصعيد الأخير، وأدان قتل وجرح المدنيين الذين يتمتعون بالحماية من الهجمات بموجب القانون الدولي، وأكد أن الأثر النفسي الاجتماعي العميق للصراعات المتكررة على سكان غزة، وخاصة الأطفال، واضح.